Menu

سيبقى الحكيم ضمير فلسطين وقلبها النابض 

د. ايلي سليمان منصور

الحكيم (110).jpg

خاص بوابة الهدف

رحل حكيم فلسطين، غاب جورج حبش وغيابه هذا سيشكل ربما نقطة الفصل لحقبة تاريخية لمجموعة من الفرسان العرب الشرفاء المناضلين الذين بعثوا في ضمير الأمة العربية الثقة والأمل، وحتمية وحدتها وتحررها من خلال إيمانهم بالثوابت والحقوق الوطنية والقومية لهذه الأمة.
 جمع الحكيم في شخصيته أهم إن لم نقل كل الصفات التي من شأنها أن تميز الإنسان الثوري الكامل والتام وأهمها: التواضع، الصلابة، الإخلاص، الحيوية والديناميكية، المبادرة، الصدق، مصداقية القول والموقف معاَ، عشق الوطن وحب الشعب والأمة.
 لم يكن جورج حبش ذاك المنظر أو الفيلسوف الذي يقضي معظم أوقاته وراء المكاتب وبين الكتب، بل مناضلاً عنيداً بين جماهير شعبه يعيش همومهم ويشعر بآلامهم ويعاني مرضاهم ويعالج أمراضهم مسانداً ومناصراً للضعيف منهم في مواجهة القوي. كان أبو ميساء الحكيم ابن اللد طالباً في كلية الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت عندما حلت نكبة فلسطين وشرد شعبها في العام ١٩٤٨، وهو لم يعلم بعد أن هذه النكبة ستدفعه في المستقبل لترك مجال تعليمه وتخصصه والانخراط العملي والفعلي في المآسي والمصائب التي حلت بأبناء شعبه وأمته التي خلفتها هذه النكبة، والعمل على البحث عن طرق نضالية وثورية لتحرير الإنسان وتحرير الأمة والوطن، ومن هذا المنطلق أسس الحكيم مع مجموعة من رفاقه المناضلين المخلصين الشرفاء حركة القوميين العرب اعتقاداً، بل إيماناً منهم أن تجاوز الهزيمة العربية لا بد إلا أن يكون عن طريق أصوات شريفة تستطيع أن تشخّص أمراض أمتنا، وبالتالي تصف وتحدد العلاج الشافي لهذه الأمراض. تأثر جورج حبش كثيراً من فكر ساطع الحصري القومي وتلقن مبادئ القومية من أستاذه قسطنطين زريق. في البداية عند تأسيس حركة القوميين العرب كان بجانبه نخبة مميزة من الشباب العرب نذكر منهم: أحمد الخطيب، صالح شبل، حامد جبوري، والدكتور وديع حداد (أبو هاني) الذي كان جورج حبش يلقبه بجيفارا المنطقة العربية (ووديع هو ابن عائلة حداد من صفد، وهي ذاتها عائلة جدي من أمي رحمه الله .. الذي طالما كان يحدثني ويخبرني في صغري وحداثتي عن وديع الطفل والشاب اليافع الجميل الخلوق والشجاع). وهذه النخبة شكلت النواة الأولى لحركة القوميين العرب ومن ثم أخذت بالانتشار في بلاد العرب داعيةَ للنهوض القومي العربي، وقد أرادها الحكيم حركةَ وليس حزبً،ً وقد قال جورج حبش وقتها: "لا نريد حزباً وإنما حركةَ، الحركة تتسع للأمة العربية كلها، إنها أقرب إلى مفهوم الجبهة، وتعني أن الأمة كلها في مواجهة المشروع الصهيوني والاحتلالي". 
وفي فترة معينة من تجربة القوميين العرب حدثت أحداث وعصفت عواصف على الصعيد العربي والتي دفعت إلى "تبخر" و"ذبول" آمال تحرير فلسطين كما تخيلها جورج حبش ورفاقه، وذلك عبر النضال الوحدوي التحريري، وكان من أهم هذه الأحداث انتصار الثورة في الجزائر وانفصال الوحدة السورية المصرية، بحيث شكلت هذه الأحداث تحدياً للحكيم ورفاقه ودفعتهم إلى تبني إستراتيجية فكرية جديدة ونظرة مستقبلية مختلفة، وهي نظرية الكفاح المسلح كطريق للتحرير كما فعل ثوار الجزائر، ومن هذا المنطلق تم في بداية الستينات إنشاء منظمات أبطال العودة وشباب الثأر، وهكذا كانت البداية للأعمال العسكرية الفدائية لحركة القوميين العرب عبر الحدود الشمالية في تلك الفترة، والتي استشهد في عملياتها خالد أبو عيشة. وبعدها جاءت هزيمة حزيران ١٩٦٧ ونتائجها المذلة للعرب، لكنها أعطت دفعاً قوياً للكفاح الفلسطيني المسلح، فكان للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش الدور المهم والأساسي بين فلسطيني الداخل والشتات، ومن خلال هذا أصبح اسم جورج حبش في داخل الأراضي المحتلة وخارجها رمزاً للصلابة، والالتزام الأخلاقي والوطني الذي لا يساوم ولا يلين. 
كانت اختلافات جورج حبش مع رفيق دربه وخصمه القائد الفلسطيني ياسر عرفات كثيرة، لكنها كانت تشكل الأمر الذي عزز من مكانة منظمة التحرير وزاد من صلابتها وأنعش الديناميكية تحت سقف الشرعية النضالية في محيط عربي متقهقر ومضطرب وفي مقاومة عدو قوي يصعب التعامل معه. وبالرغم من الاختلافات الإستراتيجية والأيديولوجية مع ياسر عرفات، فقد ظل الحكيم دائماً صمام الأمان عندما يحتدم عجيج المنظمات، وكان يكفي أن يمسك بيد ياسر عرفات حتى يرتاح الفلسطينيون.
عاش جورج حبش حياة بسيطة متواضعة سواء كان في زمن قيادته للجبهة الشعبية أو بعد استقالته منها، وقد أعطى فلسطين كل ما لديه ولم يأخذ في المقابل شيئاً له أو لمن حوله. ويذكر عن مقربيه أن معاش الحكيم الشهري بعد تركه قيادة الجبهة لم يتعدَ ال ٣٠٠ دولار أمريكي، ولم يطلب كما قلت أي مطلب أو مصلحة شخصيةَ له ولأبناء أسرته. وجورج حبش لم يكن رجل المناسبات والحفلات والمقاهي والفنادق، إنما كان رجل المخيمات ومواقع الإنسان المظلوم واللاجئ الفقير؛ فقواعده الصامدة كانت في هذه الأماكن. وفي الأردن وفي بداية طريقة كان انحيازه دائماً للفقراء الذين فتح لهم عيادة طبية مع زميل دربه الدكتور وديع حداد في مخيمات الأردن لعلاجهم في وقت قل وندر فيه الأطباء وانعدم وجود العلاجات والأدوية.
 ومن أهم ما يمكن أن نكتبه عن الحكيم أنه كان من القادة النادرين في تاريخ أمتنا السياسي والحزبي أو الرسمي الذي تنازل طوعاً عن موقعه القيادي لإفساح المجال أمام أجيال جديدة؛ إيماناً منه بالتداول، ولكي تأخذ هذه الأجيال دورها ومسئوليتها... وينقل عن بعض المفكرين العرب أن هذا الأمر سيكون من أهم الأسباب والعوامل التي ستجعل من الدكتور حبش يدخل التاريخ العربي والعالمي.
 أنا شخصياً من الجيل الذي عاصر لفترة زمنية محددة جورج حبش واعتنق مواقفه وآمن بطروحاته السياسية والأدبية المختلفة، في وقت منع عنا الحديث عنه أو حتى لفظ اسمه، لكن مع كل هذا سمعناه ورأيناه وقرأناه، واستمتعنا بأقواله وأحاديثه، وكانت مواقفه الوطنية والقومية حقنة محفزة ومشجعة لنا لزيادة صلابة إيماننا الوطني وتقوية وتجذيراً لمواقفنا في زمن قلت وشحت فيه المواقف الوطنية الشريفة والصادقة. وفي حوار صحفي أجراه محمود سويد مع الدكتور حبش سنة 1998 كان رده على سؤال من قبل المحاور: من هو جورج حبش اليوم؟ فكان كالتالي: 
"أنا ماركسي، يساري الثقافة، التراث الإسلامي جزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية، معني بالإسلام بقدر أيّ حركة سياسية إسلامية، كما أنّ القومية العربية مكون كبير وأصيل من مكوناتي… إنني في حال انسجام مع قوميتي العربية ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدميّة".
رحل حكيم فلسطين القومي العربي المناضل، ضمير الثورة الفلسطينية تاركاً وراءه أمة مشرذمة وممزقة طالما حلم بوحدتها، وشعب فلسطين الممزق هو الآخر الذي سيفتقده لأجيال وأجيال، لكن قلب الحكيم سيبقى نابضاً بين أبناء شعبه، ورسالته الثورية الشريفة ستبقى راية ترفرف في سماء فلسطين تنادي للحرية والديمقراطية والاستقلال وتقرير المصير.